فصل: غزو بلاد فارس من ناحية البحرين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة ست عشرة

استُهلت هذه السنة، وسعد بن أبي وقاص منازل مدينة نهرشير، وهي إحدى مدينتي كسرى مما يلي دجلة من الغرب، وكان قدوم سعد إليها في ذي الحجة من سنة خمس عشرة، واستهلت هذه السنة وهو نازل عندها‏.‏

وقد بعث السرايا والخيول في كل وجه فلم يجدوا واحداً من الجند بل جمعوا من الفلاحين مائة ألف، فحبسوا حتى كتب إلى عمر ما يفعل بهم‏.‏

فكتب إليه عمر‏:‏ إن من كان من الفلاحين لم يعن عليكم وهو مقيم ببلده فهو أمانه، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به‏.‏

فأطلقهم سعد بعد ما دعاهم إلى الإسلام، فأبوا إلا الجزية‏.‏

ولم يبقى من غربي دجلة إلا أرض العرب أحد من الفلاحين إلا تحت الجزية والخراج‏.‏

وامتنعت نهرشير من سعد أشد الامتناع، وقد بعث إليهم سعد سلمان الفارسي فدعاهم إلى الله عز وجل، أو الجزية، أو المقاتلة، فأبوا إلا المقاتلة والعصيان، ونصبوا المجانيق والدبابات‏.‏

وأمر سعد بعمل المجانيق فعملت عشرون منجنيقاً ونصبت على نهرشير، واشتد الحصار، وكان أهل نهرشير يخرجون فيقاتلون قتالاً شديداً ويحلفون أن لا يفروا أبداً، فأكذبهم الله وهزمهم زهرة بن حوية بعد ما أصابه سهم، وقتل بعد مصابه كثيراً من الفرس، وفروا بين يديه، ولجأوا إلى بلدهم، فكانوا يحاصرون فيه أشد الحصار، وقد انحصر أهل البلد حتى أكلوا الكلاب والسنانير، وقد أشرف رجل منهم على المسلمين فقال‏:‏

يقول لكم الملك‏:‏ هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة إلى جبلنا‏؟‏ ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم‏؟‏ أم شبعتم‏؟‏ لا أشبع الله بطونكم‏.‏

قال‏:‏ فبدر الناس رجل يقال له أبو مقرن الأسود بن قطبة فأنطقه الله بكلام لم يدر ما قال لهم، قال‏:‏ فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون من نهرشير إلى المدائن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 74‏)‏

فقال الناس لأبي مقرن‏:‏ ما قلت لهم‏؟‏

فقال‏:‏ والذي بعث محمد بالحق ما أدري ما قلت لهم، إلا أن علي سكينة، وأنا أرجو أن أكون قد أنطقت بالذي هو خير، وجعل الناس ينتابونه يسألونه عن ذلك، وكان فيمن سأله سعد بن أبي وقاص، وجاءه سعد إلى منزله فقال‏:‏ يا أبا مقرن ما قلت‏؟‏ فوالله إنهم هراب‏.‏

فحلف له أنه لا يدري ما قال‏.‏

فنادى سعد في الناس، ونهد بهم إلى البلد والمجانيق تضرب في البلد، فنادى رجل من البلد بالأمان فأمناه، فقال‏:‏ والله ما بالبلد أحد فتسور الناس السور فما وجدنا فيها أحد إلا قد هربوا إلى المدائن‏.‏

وذلك في شهر صفر من هذه السنة، فسألنا ذلك الرجل وأناساً من الأسارى فيها لأي شيء هربوا‏؟‏

قالوا‏:‏ بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح فأجابه ذلك الرجل بأنه لا يكون بينكم وبينه صلح أبداً حتى نأكل عسل أفريذين بأترج كوثى‏.‏

فقال الملك‏:‏ يا ويلاه إن الملائكة لتتكلم على ألسنتهم، ترد علينا وتجيبنا عن العرب، ثم أمر الناس بالرحيل من هناك إلى المدائن، فجازوا في السفن منها إليها، وبينهما دجلة، وهي قريبة منها جداً‏.‏

ولما دخل المسلمون نهرشير لاح لهم القصر الأبيض من المدائن، وهو قصر الملك الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيفتحه الله على أمته، وذلك قريب الصباح، فكان أول من رآه من المسلمين ضرار بن الخطاب فقال‏:‏ الله أكبر، أبيض كسرى، هذا ما وعدنا الله ورسوله‏.‏

ونظر الناس إليه، فتتابعوا التكبير إلى الصبح‏.‏

 ذكر فتح المدائن

لما فتح سعد نهرشير واستقر بها، وذلك في صفر، لم يجد فيها أحداً ولا شيئاً مما يغنم، بل قد تحولوا بكمالهم إلى المدائن، وركبوا السفن وضموا السفن إليهم، ولم يجد سعد رضي الله عنه شيئاً من السفن، وتعذر عليه تحصيل شيء منها بالكلية، وقد زادت دجلة زيادة عظيمة، وأسودَّ ماؤها، ورمت بالزبد من كثرة الماء بها، وأخبر سعد بأن كسرى يزدجرد عازم على أخذ الأموال والأمتعة من المدائن إلى حلوان، وأنك إن لم تدركه قبل ثلاث فات عليك وتفارط الأمر‏.‏

فخطب سعد المسلمين على شاطئ دجلة فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏

إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاؤا فينا وشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا أني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم‏.‏

فقالوا جميعاً عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 75‏)‏

فعند ذلك ندب سعد الناس إلى العبور، ويقول‏:‏ من يبدأ فيحمي لنا الفراض - يعني‏:‏ ثغرة المخاضة من الناحية الأخرى - ليجوز الناس إليهم آمنين‏.‏

فانتدب عاصم بن عمرو ذو البأس من الناس قريب من ستمائة، فأمر سعد عليهم عاصم بن عمرو فوقفوا على حافة دجلة، فقال عاصم‏:‏ من ينتدب معي لنكون قبل الناس دخولاً في هذا البحر فنحمي الفراض من الجانب الآخر ‏؟‏

فانتدب له ستون من الشجعان المذكورين - والأعاجم وقوف صفوفاً من الجانب الآخر - فتقدم رجل من المسلمين وقد أحجم الناس عن الخوض في دجلة، فقال‏:‏ أتخافون من هذه النطفة ‏؟‏

ثم تلا قوله تعالى‏:‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 145‏]‏‏.‏

ثم أقحم فرسه فيها واقتحم الناس، وقد افترق الستون فرقتين أصحاب الخيل الذكور، وأصحاب الخيل الإناث‏.‏

فلما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا‏:‏ ديوانا ديوانا‏.‏ يقولون‏:‏ مجانين مجانين‏.‏

ثم قالوا‏:‏ والله ما تقاتلون إنساً بل تقاتلون جناً‏.‏

ثم أرسلوا فرساناً منهم في الماء يلتقون أول المسلمين ليمنعوهم من الخروج من الماء، فأمر عاصم بن عمرو وأصحابه أن يشرعوا لهم الرماح، ويتوخوا الأعين، ففعلوا ذلك بالفرس، فقلعوا عيون خيولهم‏.‏

فرجعوا أمام المسلمين لا يملكون كف خيولهم حتى خرجوا من الماء، واتبعهم عاصم وأصحابه فساقوا وراءهم حتى طردوهم عن الجانب الآخر، ووقفوا على حافة الدجلة من الجانب الآخر، ونزل بقية أصحاب عاصم من الستمائة في دجلة فخاضوها حتى وصلوا إلى أصحابهم من الجانب الآخر، فقاتلوا مع أصحابهم حتى نفوا الفرس عن ذلك الجانب، وكانوا يسمون الكتيبة الأولى‏:‏ كتيبة الأهوال، وأميرها عاصم بن عمرو‏.‏

والكتيبة الثانية‏:‏ الكتيبة الخرساء وأميرها القعقاع بن عمرو، وهذا كله وسعد والمسلمون ينظرون إلى ما يصنع هؤلاء الفرسان بالفرس، وسعد واقف على شاطئ دجلة‏.‏

ثم نزل سعد ببقية الجيش، وذلك حين نظروا إلى الجانب الآخر قد تحصن بمن حصل فيه من الفرسان المسلمين، وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا‏:‏ نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

ثم اقتحم بفرسه دجلة، واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد‏.‏

فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤا ما بين الجانبين فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره، وتأييده، ولأن أميرهم سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راضٍ ودعا له فقال‏:‏

‏(‏‏(‏اللهم أجب دعوته، وسدد رميته‏)‏‏)‏‏.‏

والمقطوع به‏:‏ أن سعداً دعا لجيشه هذا في هذا اليوم بالسلامة والنصر، وقد رمى بهم في هذا اليم فسددهم الله وسلمهم فلم يفقد من المسلمين رجل واحد غير أن رجلاً واحداً يقال له‏:‏ غرقدة البارقي ذل عن فرس له شقراء، فأخذ القعقاع بن عمرو بلجامها، وأخذ بيد الرجل حتى عدله على فرسه، وكان من الشجعان، فقال‏:‏ عجز النساء أن يلدن مثل القعقاع بن عمرو‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 76‏)‏

ولم يعدم للمسلمين شيء من أمتعتهم غير قدح من خشب لرجل يقال له‏:‏ مالك بن عامر، كانت علاقته رثة فأخذه الموج، فدعا صاحبه الله عز وجل، وقال‏:‏ اللهم لا تجعلني من بينهم يذهب متاعي‏.‏

فرده الموج إلى الجانب الذي يقصدونه فأخذه الناس، ثم ردوه على صاحبه بعينه‏.‏

وكان الفرس إذا أعيا وهو في الماء يقيض الله له مثل النشز المرتفع فيقف عليه فيستريح، وحتى أن بعض الخيل ليسير وما يصل الماء إلى حزامها، وكان يوماً عظيماً وأمراً هائلاً، وخطباً جليلاً، وخارقاً باهراً، ومعجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خلقها الله لأصحابه لم ير مثلها في تلك البلاد، ولا في بقعة من البقاع، سوى قضية العلاء بن الحضرمي المتقدمة؛ بل هذا أجل وأعظم فإن هذا الجيش كان أضعاف ذلك‏.‏

قالوا‏:‏ وكان الذي يساير سعد بن أبي وقاص في الماء سلمان الفارسي فجعل سعد يقول‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏ والله لينصرن الله وليه وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات‏.‏

فقال له سلمان‏:‏ إن الإسلام جديد، ذللت لهم والله البحور، كما ذلل لهم البر، أما والذي نفس سليمان بيده ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا أفواجاً‏.‏

فخرجوا منه كما قال سليمان لم يغرق منهم أحد ولم يفقدوا شيئاً‏.‏

ولما استقل المسلمون على وجه الأرض، خرجت الخيول تنفض أعرافها صاهلة، فساقوا وراء الأعاجم حتى دخلوا المدائن، فلم يجدوا بها أحداً؛ بل قد أخذ كسرى أهله وما قدروا عليه من الأموال والأمتعة والحواصل وتركوا ما عجزوا عنه من الأنعام والثياب والمتاع، والآنية والألطاف والأدهان ما لا يدري قيمته‏.‏

وكان في خزنة كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف ألف دينار ثلاث مرات، فأخذوا من ذلك ما قدروا عليه وتركوا ما عجزوا عنه، وهو مقدار النصف من ذلك أو ما يقاربه‏.‏

فكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال ثم الكتيبة الخرساء، فأخذوا في سككها لا يلقون أحداً ولا يخشونه غير القصر الأبيض، ففيه مقاتلة وهو محصن‏.‏

فلما جاء سعد بالجيش دعا أهل القصر الأبيض ثلاث أيام على لسان سلمان الفارسي، فلما كان اليوم الثالث نزلوا منه وسكنه سعد، واتخذ الإيوان مصلى، وحين دخله تلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 25-28‏]‏‏.‏ ثم تقدم إلى صدره فصلى ثمان ركعات صلاة الفتح‏.‏

وذكر سيف في روايته‏:‏ أنه صلاها بتسليمة واحدة، وأنه جمَّع بالإيوان في صفر من هذه السنة، فكانت أول جمعة جمِّعت بالعراق، وذلك لأن سعداً نوى الإقامة بها، وبعث إلى العيالات فأنزلهم دور المدائن واستوطنوها، حتى فتحوا جلولاء وتكريت والموصل، ثم تحولوا إلى الكوفة بعد ذلك كما سنذكره‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/77‏)‏

ثم أرسل السرايا في إثر كسرى يزدجرد فلحق بهم طائفة فقتلوهم، وشردوهم، واستلبوا منهم أموالاً عظيمة‏.‏

وأكثر ما استرجعوا من ملابس كسرى وتاجه وحليه‏.‏

وشرع سعد في تحصيل ما هنالك من الأموال والحواصل والتحف، مما لا يقوم ولا يحد ولا يوصف كثرة وعظمة‏.‏

وقد روينا‏:‏ أنه كان هناك تماثيل من جص، فنظر سعد إلى أحدها وإذا هو يشير بأصبعه إلى مكان‏.‏

فقال سعد‏:‏ إن هذا لم يوضع هكذا سدىً، فأخذوا ما يسامت أصبعه، فوجدوا قبالتها كنزاً عظيماً من كنوز الأكاسرة الأوائل، فأخرجوا منه أموالاً عظيمة جزيلة، وحواصل باهرة، وتحفاً فاخرة‏.‏

واستحوذ المسلمون على ما هنالك أجمع مما لم ير أحد في الدنيا أعجب منه، وكان في جملة ذلك تاج كسرى وهو مكال بالجواهر النفيسة التي تحير الأبصار، ومنطقته كذلك وسيفه وسواره وقباؤه وبساط إيوانه، وكان مربعاً ستون ذراعاً في مثلها من كل جانب، والبساط مثله سواء، وهو منسوج بالذهب واللآلئ والجواهر الثمينة، وفيه مصور جميع ممالك كسرى، بلاده بأنهارها وقلاعها، وأقاليمها وكنوزها، وصفة الزروع والأشجار التي في بلاده‏.‏

فكان إذا جلس على كرسي مملكته ودخل تحت تاجه وتاجه معلق بسلاسل من ذهب، لأنه كان لا يستطيع أن يقله على رأسه لثقله؛ بل كان يجيء فيجلس تحته، ثم يدخل رأسه تحت التاج والسلاسل الذهب تحمله عنه، وهو يستره حال لبسه، فإذا رفع الحجاب عنه خرت له الأمراء سجوداً‏.‏

وعليه المنطقة والسواران والسيف والقباء المرصع بالجواهر فينظر في البلدان واحدة واحدة، فيسأل عنها ومن فيها من النواب، وهل حدث فيها شيء من الأحداث‏؟‏ فيخبره بذلك ولاة الأمور بين يديه‏.‏

ثم ينتقل إلى الأخرى، وهكذا حتى يسأل عن أحوال بلاده في كل وقت لا يهمل أمر المملكة، وقد وضعوا هذا البساط بين يديه تذكاراً له بشأن الممالك، وهو إصلاح جيد منهم في أمر السياسة، فلما جاء قدر الله زالت تلك الأيدي عن تلك الممالك والأراضي، وتسلمها المسلمون من أيديهم قسراً، وكسروا شوكتهم عنها، وأخذوها بأمر الله صافية ضافية، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد جعل سعد بن أبي وقاص على الأقباض عمرو بن عمرو بن مقرن، فكان أول ما حصل ما كان في القصر الأبيض ومنازل كسرى، وسائر دور المدائن، وما كان بالإيوان مما ذكرنا، وما يفد من السرايا الذين في صحبة زهرة بن حوية، وكان فيما رد زهرة بغل كان قد أدركه وغصبه من الفرس، وكانت تحوطه بالسيوف فاستنقذه منهم وقال‏:‏ إن لهذا لشأناً، فرده إلى الأقباض وإذا عليه سفطان فيهما ثياب كسرى وحليه، ولبسه الذي كان يلبسه على السرير كما ذكرنا‏.‏

وبغل آخر عليه تاجه الذي ذكرنا في سفطين أيضاً رداً من الطريق مما استلبه أصحاب السرايا، وكان فيما ردت السرايا أموال عظيمة، وفيها أكثر أثاث كسرى وأمتعته والأشياء النفيسة التي استصحبوها معهم فلحقهم المسلمون فاستلبوها منهم‏.‏

ولم تقدر الفرس على حمل البساط لثقله عليهم، ولا حمل الأموال لكثرتها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 78‏)‏

فإنه كان المسلمون يجيئون بعض تلك الدور فيجدون البيت ملآناً إلى أعلاه من أواني الذهب والفضة، ويجدون من الكافور شيئاً كثيراً فيحسبونه ملحاً، وربما استعمله بعضهم في العجين فوجدوه مراً حتى تبينوا أمره فتحصل الفيء على أمر عظيم من الأموال‏.‏

وشرع سعد فخمّسه، وأمر سلمان الفارسي فقسم الأربعة الأخماس بين الغانمين، فحصل لكل واحدٍ من الفرسان اثني عشرة ألفاً، وكانوا كلهم فرساناً، ومع بعضهم جنائب‏.‏

واستوهب سعد أربعة أخماس‏:‏ البساط، ولبس كسرى من المسلمين، ليبعثه إلى عمر والمسلمين بالمدينة لينظروا إليه ويتعجبوا منه، فطيبوا له ذلك وأذنوا فيه، فبعثه سعد إلى عمر مع الخمس مع بشير بن الخصاصية‏.‏

وكان الذي بشر بالفتح قبله حليس بن فلان الأسدي، فروينا‏:‏ أن عمر لما نظر إلى ذلك قال‏:‏ إن قوماً أدوا هذا لأمناء‏.‏

فقال له علي بن أبي طالب‏:‏ إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت‏.‏

ثم قسّم عمر ذلك في المسلمين، فأصاب علياً قطعة من البساط، فباعها بعشرين ألفاً‏.‏

وقد ذكر سيف بن عمر‏:‏ أن عمر بن الخطاب ألبس ثياب كسرى لخشبة ونصبها أمامه ليرى الناس ما في هذه الزينة من العجب، وما عليها من زهرة الحياة الدنيا الفانية‏.‏

وقد روينا‏:‏ أن عمر ألبس ثياب كسرى لسراقة بن مالك بن جعشم أمير بني مدلج رضي الله عنه‏.‏

قال الحافظ أبو بكر البيهقي في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏‏:‏ أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني، حدثنا أبو سعيد ابن الأعرابي قال‏:‏ وجدت في كتابي بخط يدي عن أبي داود، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد، ثنا يونس، عن الحسن‏:‏ أن عمر بن الخطاب أُتي بفروة كسرى، فوضعت بين يديه وفي القوم سراقة بن مالك بن جعشم، قال‏:‏ فألقى إليه سواري كسرى بن هرمز فجعلهما في يده فبلغا منكبيه، فلما رآهما في يدي سراقة قال‏:‏ الحمد لله سواري كسرى بن هرمز في يدي سراقة بن مالك بن جعشم أعرابي من بني مدلج‏.‏

وذكر الحديث هكذا ساقه البيهقي‏.‏

ثم حُكي عن الشافعي أنه قال‏:‏ وإنما ألبسهما سراقة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسراقة‏:‏ ‏(‏‏(‏ونظر إلى ذراعيه كأني بك وقد ألبست سواري كسرى‏)‏‏)‏‏.‏

قال الشافعي‏:‏ وقد قال عمر لسراقة حين ألبسه سواري كسرى، قل‏:‏ الله أكبر‏.‏

فقال‏:‏ الله أكبر‏.‏

ثم قال‏:‏ قل‏:‏ الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن مالك الأعرابي من بني مدلج‏.‏

وقال الهيثم بن عدي‏:‏ أخبرنا أسامة بن زيد الليثي، حدثنا القاسم بن محمد بن أبي بكر، قال‏:‏ بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر بقباء كسرى وسيفه ومنطقته وسواريه وسراويله وقميصه وتاجه وخفيه‏.‏

قال‏:‏ فنظر عمر في وجوه القوم وكان أجسمهم وأبدنهم قامة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال‏:‏ يا سراق قم فالبس‏.‏

قال سراقة‏:‏ فطمعت فيه فقمت فلبست‏.‏

فقال‏:‏ أدبر، فأدبرت‏.‏

ثم قال‏:‏ أقبل، فأقبلت‏.‏

ثم قال‏:‏ بخ بخ أُعَيْرَابي من بني مدلج، عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 79‏)‏

رب يوم يا سراق بن مالك، لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى، كان شرفاً لك ولقومك، انزع، فنزعت‏.‏

فقال‏:‏ اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك، وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني، وأكرم إليك مني، وأعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي‏.‏

ثم بكى حتى رحمه من كان عنده‏.‏

ثم قال لعبد الرحمن بن عوف‏:‏ أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي‏.‏

وذكر سيف بن عمر التميمي‏:‏ أن عمر حين ملك تلك الملابس والجواهر جيء بسيف كسرى ومعه عدة سيوف منها سيف النعمان بن المنذر نائب كسرى على الحيرة‏.‏

وأن عمر قال‏:‏ الحمد الله الذي جعل سيف كسرى فيما يضره ولا ينفعه‏.‏

ثم قال‏:‏ إن قوماً أدوا هذا لأمناء، أو لذوا أمانة‏.‏

ثم قال‏:‏ إن كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتي عن آخرته فجمع لزوج امرأته، أو زوج ابنته، ولم يقدم لنفسه، ولو قدم لنفسه ووضع الفضول في مواضعها لحصل له‏.‏

وقد قال بعض المسلمين وهو أبو نجيد نافع بن الأسود في ذلك‏:‏

وأملنا على المدائن خيلاً * بحرها مثل برِّهنّ أريضا

فانتشلنا خزائن المرء كسرى * يوم ولوا وحاص منا جريضا

 وقعة جلولاء

لما سار كسرى، وهو‏:‏ يزدجرد بن شهريار من المدائن هارباً إلى حلوان، شرع في أثناء الطريق في جمع رجال وأعوان وجنود، من البلدان التي هناك، فاجتمع إليه خلق كثير، وجم غفير من الفرس، وأمر على الجميع مهران، وسار كسرى إلى حلوان فأقام الجمع الذي جمعه بينه وبين المسلمين في جلولاء، واحتفروا خندقاً عظيماً حولها، وأقاموا بها في العَدد والعُدد وآلات الحصار، فكتب سعد إلى عمر يخبره بذلك‏.‏

فكتب إليه عمر أن يقيم هو بالمدائن، ويبعث ابن أخيه هاشم بن عتبة أميراً على الجيش الذي يبعثه إلى كسرى، ويكون على المقدمة القعقاع بن عمرو، وعلى الميمنة سعد بن مالك، وعلى الميسرة أخوه عمر بن مالك، وعلى الساقة عمرو بن مرة الجهني‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 80‏)‏

ففعل سعد ذلك وبعث مع ابن أخيه جيشاً كثيفاً يقارب اثني عشر ألفاً من سادات المسلمين ووجوه المهاجرين والأنصار، ورءوس العرب‏.‏

وذلك في صفر من هذه السنة بعد فراغهم من أمر المدائن، فساروا حتى انتهوا إلى المجوس وهم بجلولاء قد خندقوا عليهم، فحاصرهم هاشم بن عتبة، وكانوا يخرجون من بلدهم للقتال في كل وقت فيقاتلون قتالاً لم يسمع بمثله‏.‏

وجعل كسرى يبعث إليهم الأمداد، وكذلك سعد يبعث المدد إلى ابن أخيه مرة بعد أخرى، وحمي القتال واشتد النزال، واضطرمت نار الحرب، وقام في الناس هاشم فخطبهم غير مرة، فحرضهم على القتال والتوكل على الله‏.‏

وقد تعاقدت الفرس وتعاهدت وحلفوا بالنار أن لا يفروا أبداً حتى يفنوا العرب‏.‏

فلما كان الموقف الأخير وهو يوم الفيصل والفرقان، تواقفوا من أول النهار، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يعهد مثله حتى فني النشاب من الطرفين، وتقصفت الرماح من هؤلاء ومن هؤلاء، وصاروا إلى السيوف والطبرزنيات، وحانت صلاة الظهر فصلى المسلمون إيماءاً، وذهبت فرقة المجوس، وجاءت مكانها أخرى‏.‏

فقام القعقاع بن عمرو في المسلمين فقال‏:‏ أهالكم‏؟‏ ما رأيتم أيها المسلمون ‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم، إنا كالون وهم مريحون‏.‏

فقال‏:‏ بل إنا حاملون عليهم ومجدون في طلبهم، حتى يحكم الله بيننا، فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى نخالطهم، فحمل وحمل الناس‏.‏

فأما القعقاع بن عمرو فإنه صمم الحملة في جماعة من الفرسان والأبطال والشجعان، حتى انتهى إلى باب الخندق، وأقبل الليل بظلامه وجالت بقية الأبطال بمن معهم في الناس، وجعلوا يأخذون في التحاجز من أجل إقبال الليل‏.‏

وفي الأبطال يومئذ‏:‏ طليحة الأسدي، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وقيس بن مكشوح، وحجر بن عدي‏.‏

ولم يعلموا بما صنعه القعقاع في ظلمة الليل، ولم يشعروا بذلك، لولا مناديه ينادي‏:‏

أين أيها المسلمون، هذا أميركم على باب خندقهم‏.‏

فلما سمع ذلك المجوس فروا وحمل المسلمون نحو القعقاع بن عمرو، فإذا هو على باب الخندق قد ملكه عليهم، وهربت الفرس كل مهرب، وأخذهم المسلمون من كل وجه، وقعدوا لهم كل مرصد، فقتل منهم في ذلك الموقف مائة ألف حتى جللوا وجه الأرض بالقتلى، فلذلك سميت جلولاء‏.‏

وغنموا من الأموال والسلاح والذهب والفضة قريباً مما غنموا من المدائن قبلها‏.‏

وبعث هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو في إثر من انهزم منهم وراء كسرى، فساق خلفهم حتى أدرك مهران منهزماً، فقتله القعقاع بن عمرو، وأفلتهم الفيرزان فاستمر منهزماً، وأسر سبايا كثيرة بعث بها إلى هاشم بن عتبة، وغنموا دواب كثيرة جداً‏.‏

ثم بعث هاشم بالغنائم والأموال إلى عمه سعد بن أبي وقاص فنفل سعد ذوي النجدة، ثم أمر بقسم ذلك على الغانمين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 81‏)‏

قال الشعبي‏:‏ كان المال المتحصل من وقعه جلولاء ثلاثين ألف ألف، فكان خمسه ستة آلاف ألف‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان الذي أصاب كل فارس يوم جلولاء نظير ما حصل له يوم المدائن - يعني‏:‏ اثني عشر ألفاً لكل فارس - وقيل‏:‏ أصاب كل فارس تسعة آلاف وتسع دواب‏.‏

وكان الذي ولي قسم ذلك بين المسلمين وتحصيله، سلمان الفارسي رضي الله عنه‏.‏

ثم بعث بالأخماس من المال والرقيق والدواب مع زياد بن أبي سفيان، وقضاعي بن عمرو، وأبي مقرن الأسود‏.‏

فلما قدموا على عمر سأل عمر زياد بن أبي سفيان عن كيفية الوقعة فذكرها له، وكان زياد فصيحاً، فأعجب إيراده لها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأحب أن يسمع المسلمون منه ذلك، فقال‏:‏ أتستطيع أن تخطب الناس بما أخبرتني به ‏؟‏

قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحد على وجه الأرض أهيب عندي منك، فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك‏؟‏

فقام في الناس فقص عليهم خبر الوقعة، وكم قتلوا، وكم غنموا، بعبارة عظيمة بليغة‏.‏

فقال عمر‏:‏ إن هذا لهو الخطيب المصقع - يعني‏:‏ الفصيح - فقال زياد‏:‏

إن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا‏.‏

ثم حلف عمر بن الخطاب أن لا يجن هذا المال الذي جاؤا به سقف حتى يقسمه، فبات عبد الله بن أرقم، وعبد الرحمن بن عوف يحرسانه في المسجد، فلما أصبح جاء عمر في الناس بعد ما صلى الغداة وطلعت الشمس، فأمر فكشف عنه جلابيبه، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وذهبه الأصفر وفضته البيضاء، بكى عمر‏.‏

فقال له عبد الرحمن‏:‏ ما يبكيك يا أمير المؤمنين ‏؟‏‏!‏ فوالله إن هذا لموطن شكر‏.‏

فقال عمر‏:‏ والله ما ذاك يبكيني، وتالله ما أعطي الله هذا قوماً إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى بأسهم بينهم‏.‏

ثم قسمه كما قسم أموال القادسية‏.‏

وروى سيف بن عمر، عن شيوخه أنهم قالوا‏:‏ وكان فتح جلولاء في ذي القعدة من سنة ستة عشر، وكان بينه وبين فتح المدائن تسعة أشهر‏.‏

وقد تكلم ابن جرير ههنا فيما رواه عن سيف على ما يتعلق بأرض السواد وخراجها، وموضع تحرير ذلك كتاب ‏(‏الأحكام‏)‏‏.‏

وقد قال هاشم بن عتبة في يوم جلولاء‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 82‏)‏

يوم جلولاء ويم رستم * ويوم زحف الكوفة المقدم

ويوم عرض الشهر المحرم * وأيام خلت من بينهن صرم

شيبن أصدغي فهي هرم * مثل ثغام البلد المحرم

وقال أبو نجيد في ذلك‏:‏

ويوم جلولاء الوقيعة أصبحت * كتائبنا تردى بأسد عوابس

فضضت جموع الفرس ثم أئمتهم * فتباً لأجساد المجوس النجائس

وأفلتهن الفيرزان بجرعة * ومهران أردت يوم حز القوانس

أقاموا بدار للمنية موعد * وللترب تحثوها خجوج الروامس

 ذكر فتح حلوان

ولما انقضت الوقعة أقام هشام بن عتبة بجلولاء عن أمر عمر بن الخطاب - في كتابه إلى سعد - وتقدم القعقاع بن عمرو إلى حلوان عن أمر عمر أيضاً ليكون ردءاً للمسلمين هنالك، ومرابطاً لكسرى حيث هرب، فسار كما قدمنا‏.‏

وأدرك أمير الوقعة وهو مهران الرازي فقتله وهرب الفيرزان، فلما وصل إلى كسرى وأخبره بما كان من أمر جلولاء، وما جرى على الفرس بعده، وكيف قتل منهم مائة ألف، وأدرك مهران فقتل، هرب عند ذلك كسرى من حلوان إلى الري، واستناب على حلوان أميراً يقال له‏:‏ خسروشنوم‏.‏

فتقدم إليه القعقاع بن عمرو، وبزر إليه خسروشنوم إلى مكان خارج حلوان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم فتح الله ونصر المسلمين، وانهزم خسروشنوم، وساق القعقاع إلى حلوان فتسلمها‏.‏

ودخلها المسلمون فغنموا وسبوا، وأقاموا في الإسلام فأبوا إلا الجزية، فلم يزل القعقاع بها حتى تحول سعد من المدائن بها، وضربوا الجزية على من حولها من الكور والأقاليم بعد ما دعوا إلى الدخول، فسار إليها كما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/83‏)‏

 فتح تكريت والموصل

لما افتتح سعد المدائن، بلغه أن أهل الموصل قد اجتمعوا بتكريت على رجل من الكفرة يقال له‏:‏ الأنطاق‏.‏

فكتب إلى عمر بأمر جلولاء واجتماع الفرس بها، وبأمر أهل الموصل، فتقدم ما ذكرناه من كتاب عمر في أهل جلولاء وما كان من أمرها‏.‏

وكتب عمر في قضية أهل الموصل الذين قد اجتمعوا بتكريت على الأنطاق، أن يعين جيشاً لحربهم، ويؤمر عليه عبد الله بن المعتم، وأن يجعل على مقدمته ربعي بن الأفكل الغزي، وعلى الميمنة الحارث بن حسان الذهلي، وعلى الميسرة فرات بن حيان العجلي، وعلى الساقة هانئ بن قيس، وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة‏.‏

ففصل عبد الله بن المعتم في خمسة آلاف من المدائن، فسار في أربع حتى نزل بتكريت على الأنطاق، وقد اجتمع إليه جماعة من الروم، ومن الشهارجة، ومن نصارى العرب من إياد وتغلب والنمر، وقد أحدقوا بتكريت، فحاصرهم عبد الله بن المعتم أربعين يوماً، وزاحفوه في هذه المدة أربعة وعشرين مرة، ما من مرة إلا وينتصر عليهم، ويفل جموعهم، فضعف جانبهم؛ وعزمت الروم على الذهاب في السفن بأموالهم، وراسل عبد الله بن المعتم إلى من هنالك من الأعراب، فدعاهم إلى الدخول معه في النصرة، على أهل البلد، فجاءت القصاد إليه عنهم بالإجابة إلى ذلك‏.‏

فأرسل إليهم‏:‏ إن كنتم صادقين فيما قلتم فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقروا بما جاء من عند الله‏.‏

فرجعت القصاد إليه‏:‏ بأنهم قد أسلموا‏.‏

فبعث إليهم‏:‏ إن كنتم صادقين، فإذا كبرنا وحملنا على البلد الليلة فأمسكوا علينا أبواب السفن، وأمنعوهم أن يركبوا فيها، واقتلوا منهم من قدرتم على قتله‏.‏

ثم شد عبد الله وأصحابه، وكبروا تكبيرة رجل واحد، وحملوا على البلد، فكبرت الأعراب من الناحية الأخرى، فحار أهل البلد، وأخذوا في الخروج من الأبواب التي تلي دجلة، فتلقتهم إياد والنمر وتغلب، فقتلوهم قتلاً ذريعاً، وجاء عبد الله بن المعتم بأصحابه من الأبواب الأُخر، فقتل جميع أهل البلد عن بكرة أبيهم‏.‏

ولم يسلم إلا من أسلم من الأعراب من إياد وتغلب والنمر، وقد كان عمر عهد في كتابه إذا نصروا على تكريت أن يبعثوا ربعي بن الأفكل إلى الحصنين، وهي الموصل سريعاً، فسار إليها كما أمر عمر، ومعه سرية كثيرة، وجماعة من الأبطال، فسار إليها حتى فجئها قبل وصول الأخبار إليها، فما كان إلا أن واقفها حتى أجابوا إلى الصلح فضربت عليهم الذمة عن يد وهم صاغرون، ثم قسمت الأموال التي تحصلت من تكريت، فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف، وسهم الراجل ألف درهم‏.‏

وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان، وبالفتح مع الحارث بن حسان، وولي إمرة حرب الموصل ربعي بن الأفكل، وولي الخراج بها عرفجة بن هرثمة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 84‏)‏

 فتح ماسبذان من أرض العراق

لما رجع هاشم بن عتبة من جلولاء إلى عمر بالمدائن، بلغ سعداً أن آذين بن الهرمزان قد جمع طائفة من الفرس، فكتب إلى عمر في ذلك‏.‏

فكتب إليه‏:‏ أن ابعث جيشاً، وأمر عليهم ضرار بن الخطاب‏.‏

فخرج ضرار في جيش من المدائن، وعلى مقدمته ابن الهزيل الأسدي، فتقدم ابن الهزيل بين يدي الجيش، فالتقى مع آذين وأصحابه قبل وصول ضرار إليه، فكسر ابن الهزيل طائفة الفرس، وأسر آذين بن الهرمزان، وفر عنه أصحابه، وأمر ابن الهزيل فضرب عنق آذين بين يديه، وساق وراءه المنهزمين حتى انتهى إلى ماسبذان - وهي مدينة كبيرة - فأخذها عنوة، وهرب أهلها في رءوس الجبال والشعاب، فدعاهم فاستجابوا له، وضرب على من لم يسلم الجزية، وأقام نائباً عليها حتى تحول سعد من المدائن إلى الكوفة كما سيأتي‏.‏

 فتح قرقيسيا وهيت في هذه السنة

قال ابن جرير وغيره‏:‏ لما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن، وكان أهل الجزيرة قد أمدوا أهل حمص على قتال أبي عبيدة وخالد - لما كان هرقل بقنسرين - واجتمع أهل الجزيرة في مدينة هيت‏.‏

كتب سعد إلى عمر في ذلك، فكتب إليه‏:‏ أن يبعث إليهم جيشاً، وأن يؤمر عليهم عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف، فسار فيمن معه من المسلمين إلى هيت، فوجدهم قد خندقوا عليهم، فحاصرهم حيناً، فلم يظفر بهم‏.‏

فسار في طائفة من أصحابه، واستخلف على محاصرة هيت الحارث بن يزيد، فراح عمر بن مالك إلى قرقيسيا فأخذها عنوة، وأنابوا إلى بذل الجزية، وكتب إلى نائبه على هيت‏:‏ إن لم يصالحوا أن يحفر من وراء خندقهم خندقاً، ويجعل له أبواباً من ناحيته‏.‏

فلما بلغهم ذلك أنابوا إلى المصالحة‏.‏

قال شيخنا أبو عبد الله الحافظ الذهبي‏:‏ وفي هذه السنة بعث أبو عبيدة عمرو بن العاص بعد فراغه من اليرموك إلى قنسرين، فصالح أهل حلب، ومنبج، وأنطاكية، على الجزية، وفتح سائر بلاد قنسرين عنوة، قال‏:‏

وفيها افتتحت سروج والرها على يدي عياض بن غنم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 85‏)‏

قال‏:‏ وفيها فيما ذكر ابن الكلبي‏:‏ سار أبو عبيدة وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فحاصر إيليا فسألوا الصلح على أن يقدم عمر فيصالحهم على ذلك، فكتب أبو عبيدة إلى عمر فقدم حتى صالحهم، وأقام أياماً ثم رجع إلى المدينة‏.‏

قلت‏:‏ قد تقدم هذا فيما قبل هذه السنة والله أعلم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة حمى عمر الربذة بخيل المسلمين‏.‏

وفيها‏:‏ غرب عمر أبا محجن الثقفي إلى باضع‏.‏

وفيها‏:‏ تزوج عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عبيد‏.‏

قلت‏:‏ الذي قتل يوم الجسر، وكان أمير السرية، وهي‏:‏ أخت المختار بن أبي عبيد، أمير العراق فيما بعد، وكانت امرأة صالحة، وكان أخوها فاجراً وكافراً أيضاً‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفيها حج عمر بالناس، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت‏.‏

قال‏:‏ وكان نائبه على مكة عتاب، وعلى الشام أبو عبيدة، وعلى العراق سعد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى بن أمية، وعلى اليمامة والبحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى عُمان حذيفة بن محصن، وعلى البصرة المغيرة بن شعبة، وعلى الموصل ربعي الأفكل، وعلى الجزيرة عياض بن غنم الأشعري‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفي ربيع الأول من هذه السنة - أعني‏:‏ سنة ست عشرة - كتب عمر بن الخطاب التاريخ، وهو أول من كتبه‏.‏

قلت‏:‏ قد ذكرنا سببه في سيرة عمر، وذلك‏:‏ أنه رفع إلى عمر صك مكتوب لرجل على آخر بدين يحل عليه في شعبان، فقال‏:‏ أي شعبان‏؟‏ أَمِنْ هذه السنة أم التي قبلها أم التي بعدها ‏؟‏‏.‏

ثم جمع الناس فقال‏:‏ ضعوا للناس شيئاً يعرفون فيه حلول ديونهم‏.‏

فيقال‏:‏ أنهم أراد بعضهم أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم، كلما هلك ملك أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ أرخوا بتاريخ الروم من زمان إسكندر، فكرهوا ذلك، ولطوله أيضاً‏.‏

وقال قائلون‏:‏ أرخوا من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ من مبعثه عليه السلام‏.‏

وأشار علي بن أبي طالب وآخرون‏:‏ أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة لظهوره لكل أحد، فإنه أظهر من المولد والمبعث‏.‏

فاستحسن ذلك عمر والصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرخوا من أول تلك السنة من محرمها‏.‏

وعند مالك رحمه الله فيما حكاه عن السهيلي وغيره‏:‏ أن أول السنة من ربيع الأول لقدومه عليه السلام إلى المدينة‏.‏

والجمهور‏:‏ على أن أول السنة من المحرم، لأنه أضبط لئلا تختلف الشهور، فإن المحرم أول السنة الهلالية العربية‏.‏

وفي هذه السنة - أعني‏:‏ سنة ست عشرة - توفيت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في المحرم منها، فيما ذكره الواقدي وابن جرير وغير واحد‏.‏

وصلى عليها عمر بن الخطاب، وكان يجمع الناس لشهود جنازتها، ودفنت بالبقيع رضي الله عنها وأرضاها، وهي‏:‏ مارية القبطية أهداها صاحب الإسكندرية، -وهو جريج بن مينا - في جملة تحف وهدايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل ذلك منه، وكان معها أختها شيرين التي وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت، فولدت له ابنه عبد الرحمن بن حسان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 86‏)‏

ويقال‏:‏ أهدى المقوقس معهما جاريتين أخرتين، فيحتمل أنهما كانتا خادمتين لمارية وشيرين‏.‏

وأهدى معهن غلاماً خصياً اسمه‏:‏ مابور، وأهدى مع ذلك بغلة شهباء اسمها‏:‏ الدلدل، وأهدى حلة حرير من عمل الإسكندرية‏.‏

وكان قدوم هذه الهدية في سنة ثمان‏.‏

فحملت مارية من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبراهيم عليه السلام، فعاش عشرين شهراً، ومات قبل أبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة سواء‏.‏

وقد حزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكى عليه، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون‏)‏‏)‏‏.‏ وقد تقدم ذلك في سنة عشر‏.‏

وكانت مارية هذه من الصالحات الخيرات الحسان، وقد حظيت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعجب بها، وكانت جميلة ملاحة أي‏:‏ حلوة، وهي تشابه هاجر سرية الخليل، فإن كلاً منهما من ديار مصر، وتسراها نبي كريم، وخليل جليل عليهما السلام‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع عشرة

في المحرم منها انتقل سعد بن أبي وقاص من المدائن إلى الكوفة، وذلك أن الصحابة استوخموا المدائن، وتغيرت ألوانهم وضعفت أبدانهم، لكثرة ذبابها وغبارها، فكتب سعد إلى عمر في ذلك‏.‏

فكتب عمر‏:‏ أن العرب لا تصلح إلا حيث يوافق إبلها،‏.‏ فبعث سعد حذيفة وسلمان بن زياد يرتادان للمسلمين منزلاً مناسباً يصلح لإقامتهم‏.‏

فمرا على أرض الكوفة وهي حصباء في رملة حمراء فأعجبتهما، ووجد هنالك ديرات ثلاث‏:‏ دير حرقة بنت النعمان، ودير أم عمرو، ودير سلسلة‏.‏

وبين ذلك خصاص خلال هذه الكوفة فنزلا فصليا هنالك، وقال كل واحد منهما‏:‏ اللهم رب السماء وما أظلت، ورب الأرض وما أقلت، ورب الريح وما ذرت، والنجوم وما هوت، والبحار وما جرت، والشياطين وما أضلت والخصاص وما أجنت، بارك لنا في هذه الكوفة، واجعلها منزل ثبات‏.‏

ثم كتبا إلى سعد بالخبر، فأمر سعد باختطاط الكوفة، وسار إليها في أول هذه السنة في محرمها، فكان أول بناء وضع فيها المسجد‏.‏

وأمر سعد رجلاً رامياً شديد الرمي، فرمى من المسجد إلى الأربع جهات، فحيث سقط سهمه بنى الناس منازلهم، وعمر قصراً تلقاء محراب المسجد للإمارة، وبيت المال، فكان أول ما بنوا المنازل بالقصب، فاحترقت في أثناء السنة، فبنوها باللبن عن أمر عمر، بشرط أن لا يسرفوا ولا يجاوزوا الحد‏.‏

وبعث سعد إلى الأمراء والقبائل، فقدموا عليه فأنزلهم الكوفة، وأمر سعد أبا هياج الموكل بإنزال الناس فيها أن يعمروا ويدعوا للطريق المنهج وسع أربعين ذراعاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/87‏)‏

ولما دون ذلك ثلاثين وعشرين ذراعاً، وللأزقة سبعة أذرع‏.‏

وبنى لسعد قصر قريب من السوق، فكانت غوغاء الناس تمنع سعداً من الحديث، فكان يغلق بابه، ويقول‏:‏ سكِّنْ الصويت‏.‏

فلما بلغت هذه الكلمة عمر بن الخطاب بعث محمد بن مسلمة فأمره إذا انتهى إلى الكوفة أن يقدح زناده، ويجمع حطباً، ويحرق باب القصر، ثم يرجع من فوره‏.‏

فلما انتهى إلى الكوفة فعل ما أمره به عمر، وأمر سعداً أن لا يغلق بابه عن الناس، ولا يجعل على بابه أحداً يمنع الناس عنه، فامتثل ذلك سعد، وعرض على محمد بن مسلمة شيئاً من المال، فامتنع من قبوله ورجع إلى المدينة، واستمر سعد بعد ذلك في الكوفة ثلاث سنين ونصف، حتى عزله عنها عمر من غير عجز ولا خيانة‏.‏

 أبو عبيدة وحصر الروم له بحمص وقدوم عمر إلى الشام

وذلك أن جمعاً من الروم عزموا على حصار أبي عبيدة بحمص، واستجاشوا بأهل الجزيرة وخلق ممن هنالك، وقصدوا أبا عبيدة‏.‏

فبعث أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه من قنسرين، وكتب إلى عمر بذلك، واستشار أبو عبيدة المسلمين في أن يناجز الروم أو يتحصن بالبلد حتى يجيء أمر عمر‏؟‏ فكلهم أشار بالتحصن إلا خالداً فإنه أشار بمناجزتهم فعصاه وأطاعهم، وتحصن بحمص وأحاط به الروم، وكل بلد من بلدان الشام مشغول أهله عنه بأمرهم، ولو تركوا ما هم فيه، وأقبلوا إلى حمص لا نخرم النظام في الشام كله‏.‏

وكتب عمر إلى سعد‏:‏ أن يندب الناس مع القعقاع بن عمرو، ويسيرهم إلى حمص من يوم يقدم عليه الكتاب، نجدة لأبي عبيدة فإنه محصور، وكتب إليه‏:‏ أن يجهز جيشاً إلى أهل الجزيرة الذين مالأوا الروم على حصار أبي عبيدة، ويكون أمير الجيش إلى الجزيرة عياض بن غنم‏.‏

فخرج الجيشان معاً من الكوفة، القعقاع في أربعة آلاف نحو حمص لنجدة أبي عبيدة‏.‏

وخرج عمر بنفسه من المدينة لينصر أبا عبيدة، فبلغ الجابية، وقيل‏:‏ إنما بلغ سرع‏.‏

قاله ابن إسحاق وهو أشبه والله أعلم‏.‏

فلما بلغ أهل الجزيرة الذين مع الروم على حمص أن الجيش قد طرق بلادهم انشمروا إلى بلادهم، وفارقوا الروم، وسمعت الروم بقدوم أمير المؤمنين عمر لينصر نائبه عليهم فضعف جانبهم جداً، وأشار خالد على أبي عبيدة بأن يبرز إليهم ليقاتلهم، ففعل ذلك أبو عبيدة، ففتح الله عليه ونصره، وهزمت الروم هزيمة فظيعة‏.‏

وذلك قبل ورود عمر عليهم، وقبل وصول الأمداد إليهم بثلاث ليال‏.‏

فكتب أبو عبيدة إلى عمر وهو بالجابية يخبره بالفتح، وأن المدد وصل إليهم بعد ثلاث ليال، وسأله هل يدخلهم في القسم معهم مما أفاء الله عليهم‏؟‏ فجاء الجواب بأن يدخلهم معهم في الغنيمة، فإن العدو إنما يضعف وإنما انشمر عنه المدد من خوفهم منهم، فأشركهم أبو عبيدة في الغنيمة‏.‏

وقال عمر‏:‏ جزى الله أهل الكوفة خيراً، يحمون حوزتهم، ويمدون أهل الأمصار‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 88‏)‏

 فتح الجزيرة

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة‏:‏ فتحت الجزائر فيما قاله سيف بن عمر‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ في ذي الحجة من سنة سبع عشرة، فوافق سيف بن عمر في كونها في هذه السنة‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ كان ذلك في سنة تسع عشرة، سار إليها عياض بن غنم، وفي صحبته أبو موسى الأشعري، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وهو غلام صغير السن ليس إليه من الأمر شيء، وعثمان بن أبي العاص، فنزل الرها فصالحه أهلها على الجزية، وصالحت حران على ذلك‏.‏

ثم بعث أبا موسى الأشعري إلى نصيبين، وعمر بن سعد إلى رأس العين، وسار بنفسه إلى داراً، فافتتحت هذه البلدان، وبعث عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية، فكان عندها شيء من قتال، قتل فيه صفوان بن المعطل السلمي شهيداً‏.‏

ثم صالحهم عثمان بن أبي العاص على الجزية على كل أهل بيت دينار‏.‏

وقال سيف في روايته‏:‏ جاء عبد الله بن عبد الله بن غسان، فسلك على رجليه حتى انتهى إلى الموصل، فعبر إلى بلد حتى انتهى إلى نصيبين، فلقوه بالصلح وصنعوا كما صنع أهل الرقة‏.‏

وبعث إلى عمر برؤوس النصارى من عرب أهل الجزيرة‏.‏

فقال لهم عمر‏:‏ أدوا الجزية‏.‏

فقالوا‏:‏ أبلغنا مامننا، فوالله لئن وضعت علينا الجزية لندخلن أرض الروم، والله لتفضحنا من بين العرب‏.‏

فقال لهم‏:‏ أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمتكم، ووالله لتؤدن الجزية وأنتم صغرة قمئة، ولئن هربتم إلى الروم لأكتبن فيكم، ثم لأسبينكم‏.‏

قالوا‏:‏ فخذ منا شيئاً ولا تسميه جزية‏.‏

فقال‏:‏ أما نحن فنسميه جزية، وأما أنتم فسموه ما شئتم‏.‏

فقال له علي بن أبي طالب‏:‏ ألم يضعف عليهم سعد الصدقة ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ بلى؛ وأصغى إليه ورضي به منهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 89‏)‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة‏:‏ قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، فوصل إلى سَرْع في قول محمد بن إسحاق‏.‏

وقال سيف‏:‏ وصل إلى الجابية‏.‏

قلت‏:‏ والأشهر أنه وصل سرع، وقد تلقاه أمراء الأجناد‏:‏ أبو عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد إلى سرع، فأخبروه أن الوباء قد وقع في الشام، فاستشار عمر المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه، فمن قائل يقول‏:‏ أنت قد جئت لأمر فلا ترجع عنه، ومن قائل يقول‏:‏ لا نرى أن تقدم بوجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوباء‏.‏

فيقال‏:‏ أن عمر أمر الناس بالرجوع من الغد‏.‏

فقال أبو عبيدة‏:‏ أفراراً من قدر الله ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ نعم‏!‏ نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو هبطت وادياً ذا عدوتين، إحداهما‏:‏ مخصبة، والأخرى‏:‏ مجدبة، فإن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن أنت رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ‏؟‏

ثم قال‏:‏ لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة‏.‏

قال ابن إسحاق في روايته وهو في صحيح البخاري‏:‏ وكان عبد الرحمن بن عوف متغيباً في بعض شأنه، فلما قدم قال‏:‏ إن عندي من ذلك عِلماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا سمعتم به بأرض قومٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه‏)‏‏)‏‏.‏

فحمد الله عمر - يعني لكونه وافق رأيه - ورجع بالناس‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا وكيع، ثنا سفيان بن حسين بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد، عن سعد بن مالك بن أبي وقاص وخزيمة بن ثابت وأسامة بن زيد قالوا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن هذا الطاعون رجزٌ وبقية عذاب عذب به قوم قبلكم، فإذا وقع بأرض أنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه الإمام أحمد أيضاً من حديث سعيد بن المسيب، ويحيى بن سعيد، عن سعد بن أبي وقاص به‏.‏

قال سيف بن عمر‏:‏ كان الوباء قد وقع بالشام في المحرم من هذه السنة ثم ارتفع، وكان سيفاً يعتقد أن هذا الوباء هو طاعون عمواس الذي هلك فيه خلق من الأمراء، ووجوه المسلمين، وليس الأمر كما زعم؛ بل طاعون عمواس من السنة المستقبلة بعد هذه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى‏.‏

وذكر سيف بن عمر‏:‏ أن أمير المؤمنين عمر كان قد عزم على أن يطوف البلدان، ويزور الأمراء، وينظر فيما اعتمدوه، وما آثروا من الخير، فاختلف عليه الصحابة، فمن قائل يقول‏:‏ ابدأ بالعراق، ومن قائل يقول‏:‏ بالشام‏.‏

فعزم عمر على قدوم الشام لأجل قسم مواريث من مات من المسلمين في طاعون عمواس، فإنه أشكل قسمها على المسلمين بالشام، فعزم على ذلك وهذا يقتضي أن عمر عزم على قدوم الشام بعد طاعون عمواس، وقد كان الطاعون في سنة ثماني عشرة كما سيأتي، فهو قدوم آخر غير قدوم سرع‏.‏ والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 90‏)‏

قال سيف‏:‏ عن أبي عثمان وأبي حارثة والربيع بن النعمان قالوا‏:‏ قال عمر‏:‏ ضاعت مواريث الناس بالشام أبدأ بها فأقسم المواريث، وأقيم لهم ما في نفسي، ثم أرجع فأتقلب في البلاد، وأنبذ إليهم أمري‏.‏

قالوا‏:‏ فأتى عمر الشام أربع مرات، مرتين في سنة ست عشرة، ومرتين في سنة سبع عشرة، ولم يدخلها في الأولى من الأخريين‏.‏

وهذا يقتضي ما ذكرناه عن سيف أنه يقول‏:‏ بكون طاعون عمواس في سنة سبع عشرة‏.‏

وقد خالفه محمد بن إسحاق وأبو معشر وغير واحد، فذهبوا إلى‏:‏ أنه كان في سنة ثماني عشرة‏.‏

وفيه توفي أبو عبيدة، ومعاذ، ويزيد بن أبي سفيان، وغيرهم من الأعيان على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى‏.‏

 شيء من أخبار طاعون عمواس

الذي توفي فيه أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم من أشراف الصحابة وغيرهم‏.‏

أورده ابن جرير في هذه السنة‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ عن شعبة، عن المختار بن عبد الله البجلي، عن طارق بن شهاب البجلي قال‏:‏ أتينا أبا موسى وهو في داره بالكوفة لنتحدث عنده، فلما جلسنا قال‏:‏ لا تحفوا فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تتنزهوا عن هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها، حتى يرتفع هذا البلاء، فإني سأخبركم بما يكره مما يتقى‏.‏

من ذلك أن يظن من خرج أنه لو قام مات، ويظن من أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظن ذلك هذا المرء المسلم فلا عليه أن يخرج وأن يتنزه عنه، إني كنت مع أبي عبيدة بن الجراح بالشام عام طاعون عمواس، فلما اشتعل الوجع وبلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه‏:‏

أن سلام عليك، أما بعد‏:‏ فإنه قد عرضت لي إليك حاجة، أريد أن أشافهك بها، فعزمت عليك إذا نظرت في كتاب هذا أن لا تضعه من يدك حتى تقبل إلي‏.‏

قال‏:‏ فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء‏.‏

فقال‏:‏ يغفر الله لأمير المؤمنين، ثم كتب إليه يا أمير المؤمنين إني قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه، فخلني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي‏.‏

فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس‏:‏ يا أمير المؤمنين أمات أبو عبيدة‏؟‏

قال‏:‏ لا، وكأن قد‏.‏

قال‏:‏ ثم كتب إليه‏:‏ سلام عليك، أما بعد فإنك أنزلت الناس أرضاً عميقة، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة‏.‏

قال أبو موسى‏:‏ فلما أتاه كتابه دعاني‏.‏

فقال‏:‏ يا أبا موسى، إن كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى، فاخرج فارتد للناس منزلاً حتى أتبعك بهم، فرجعت إلى منزلي لأرتحل فوجدت صاحبتي قد أصيبت فرجعت إليه وقلت‏:‏ والله لقد كان في أهلي حدث‏.‏ فقال‏:‏ لعل صاحبتك قد أصيبت ‏؟‏‏.‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

فأمر ببعير فرحل له، فلما وضع رجله في غرزه طعن‏.‏

فقال‏:‏ والله لقد أصبت، ثم سار بالناس حتى نزل الجابية ورُفع عن الناس الوباء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 91‏)‏

وقال محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن شهر بن حوشب، عن رابة - رجل من قومه -‏:‏ وكان قد خلف على أمه بعد أبيه، وكان قد شهد طاعون عمواس‏.‏

قال‏:‏ لما اشتعل الوجع، قام أبو عبيدة في الناس خطيباً فقال‏:‏ أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة منه حظه، فطعن، فمات‏.‏

واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيباً بعده، فقال‏:‏ أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذ يسأل الله تعالى أن يقسم لآل معاذ منه حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا لنفسه فطعن في راحته فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقلب ظهر كفه، ثم يقول‏:‏ ما أحب أن لي بما فيك شيئاً من الدنيا‏.‏

فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام فيهم خطيباً، فقال‏:‏ أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتحصنوا منه في الجبال‏.‏

فقال أبو وائل الهذلي‏:‏ كذبت والله لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت شر من حماري هذا‏.‏

فقال‏:‏ والله ما أرد عليك ما تقول، وأيم الله لا نقيم عليه‏.‏

قال‏:‏ ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا، ودفعه الله عنهم‏.‏

قال‏:‏ فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو بن العاص فوالله ما كرهه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما انتهى إلى عمر مصاب أبي عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، أمر معاوية على جند دمشق وخراجها، وأمر شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها‏.‏

وقال سيف بن عمر عن شيوخه قالوا‏:‏ لما كان طاعون عمواس وقع مرتين لم ير مثلهما، وطال مكثه، وفني خلق كثير من الناس، حتى طمع العدو، وتخوفت قلوب المسلمين لذلك‏.‏

قلت‏:‏ ولهذا قدم عمر بعد ذلك إلى الشام فقسم مواريث الذين ماتوا لما أشكل أمرها على الأمراء، وطابت قلوب الناس بقدومه، وانقمعت الأعداء من كل جانب لمجيئه إلى الشام ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/92‏)‏

وقال سيف بعد ذكره قدوم عمر بعد طاعون عمواس في آخر سنة سبع عشرة، قال‏:‏ فلما أراد القفول إلى المدينة في ذي الحجة منها، خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ ألا إني قد وليت عليكم وقضيت الذي علي في الذي ولاني الله من أمركم إن شاء الله، فبسطنا بينكم فيأكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغناكم ما لدينا، فجندنا لكم الجنود، وهيأنا لكم الفروج، وبوأنا لكم ووسعنا عليكم ما بلغ فيؤكم، وما قاتلتم عليه من شامكم، وسمينا لكم أطعماتكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم وأرزاقكم ومغانمكم‏.‏

فمن علم منكم شيئاً ينبغي العمل به فليعلمنا نعمل به إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله‏.‏

قال‏:‏ وحضرت الصلاة، فقال الناس‏:‏ لو أمرت بلالاً فأذن‏؟‏ فأمره فأذن، فلم يبق أحد كان أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلال يؤذن إلا بكى حتى بل لحيته، وعمر أشدهم بكاء، وبكى من لم يدركه لبكائهم ولذكره صلى الله عليه وسلم‏.‏

وذكر ابن جرير في هذه السنة‏:‏ من طريق سيف بن عمر عن أبي المجالد أن عمر بن الخطاب بعث ينكر على خالد بن الوليد في دخوله إلى الحمام وتدلكه بعد النورة بعصفر معجون بخمر، فقال في كتابه‏:‏ إن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه، كما حرم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرم مس الخمر فلا تمسوها أجسامكم فإنها نجس، فإن فعلتم فلا تعودوا‏.‏

فكتب إليه خالد‏:‏ إنا قتلناها فعادت غسولاً غير خمر‏.‏

فكتب إليه عمر‏:‏ إني أظن أن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه، فانتهى لذلك‏.‏

قال سيف‏:‏ وأصاب أهل البصرة تلك السنة طاعون أيضاً، فمات بشر كثير وجم غفير، رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين‏.‏

قالوا‏:‏ وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهله إلى الشام، فلم يرجع منهم إلا أربعة‏.‏

فقال المهاجر بن خالد في ذلك‏:‏

من يسكن الشام يعرس به * والشام إن لم يفننا كارب

أفنى بني ريطة فرسانهم * عشرون لم يقصص لهم شارب

ومن بني أعمامهم مثلهم * لمثل هذا يعجب العاجب

طعناً وطاعوناً مناياهم * ذلك ما خط لنا الكاتب

 كائنة غريبة فيها عزل خالد عن قنسرين أيضاً

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة‏:‏ أدرب خالد بن الوليد، وعياض بن غنم، أي‏:‏ سلكا درب الروم، وأغارا عليهم، فغنموا أموالاً عظيمةً، وسبيا كثيراً‏.‏

ثم روي من طريق سيف، عن أبي عثمان، وأبي حارثة، والربيع، وأبي المجالد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/93‏)‏

قالوا‏:‏ لما رجع خالد ومعه أموال جزيلة من الصائفة، انتجعه الناس يبتغون وفده ونائله، فكان ممن دخل عليه الأشعث بن قيس، فأجازه بعشرة آلاف‏.‏

فلما بلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة‏:‏ يأمره أن يقيم خالداً ويكشف عمامته، وينزع عنه قلنسوته، ويقيده بعمامته، ويسأله عن هذه العشرة آلاف، إن كان أجازها الأشعث من ماله فهو سرف، وإن كان من مال الصائفة فهي خيانة ثم أعزله عن عمله‏.‏

فطلب أبو عبيدة خالداً، وصعد أبو عبيدة المنبر، وأقيم خالد بين يدي المنبر، وقام إليه بلال، ففعل ما أمر به عمر بن الخطاب هو والبريد الذي قدم بالكتاب‏.‏

هذا وأبو عبيدة ساكت لا يتكلم، ثم نزل أبو عبيدة واعتذر إلى خالد مما كان بغير اختياره وإرادته، فعذره خالد وعرف أنه لا قصد له في ذلك‏.‏

ثم سار خالد إلى قنسرين، فخطب أهل البلد وودعهم، وسار بأهله إلى حمص، فخطبهم أيضاً وودعهم، وسار إلى المدينة، فلما دخل خالد على عمر أنشد عمر قول الشاعر‏:‏

صنعت فلم يصنع كصنعك صانع * وما يصنع الأقوام فالله صانع

ثم سأله من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف‏؟‏

فقال‏:‏ من الأنفال والسهمان‏.‏

قال‏:‏ فما زاد على الستين ألفاً فلك، ثم قوم أمواله وعروضه، وأخذ منه عشرين ألفاً، ثم قال‏:‏ والله إنك علي لكريم، وإنك إليَّ لحبيب، ولن تعمل لي بعد اليوم على شيء‏.‏

وقال سيف، عن عبد الله، عن المستورد، عن أبيه، عن عدي بن سهل قال‏:‏ كتب عمر إلى الأمصار‏:‏ إني لم أعزل خالداً عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع‏.‏

ثم رواه سيف، عن مبشر، عن سالم قال‏:‏ لما قدم خالد على عمر فذكر مثله‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة اعتمر عمر في رجب منها، وعمَّر في المسجد الحرام، وأمر بتجديد أنصاب الحرم أمر بذلك لمخرمة بن نوفل، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، وسعيد بن يربوع‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وحدثني كثير بن عبد الله المري، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ قدم عمر مكة في عمرة سنة سبع عشرة، فمر في الطريق فكلمه أهل المياه أن يبنوا منازل بين مكة والمدينة - ولم يكن قبل ذلك بناء - فأذن لهم وشرط عليهم أن ابن السبيل أحق بالظل والماء‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفيها تزوج عمر بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل بها في ذي القعدة‏.‏

وقد ذكرنا في سيرة عمر ومسنده صفة تزويجه بها أنه أمهرها أربعين ألفاً، وقال‏:‏ إنما تزوجتها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كل سبب ونسب فإنه ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وفي هذه السنة ولى عمر أبا موسى الأشعري البصرة، وأمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة في ربيع الأول، فشهد عليه فيما حدثني معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب‏:‏ أبو بكرة، وشبل بن معبد البجلي، ونافع بن عبيد، وزياد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/94‏)‏

ثم ذكر الواقدي وسيف هذه القصة وملخصها‏:‏ أن امرأة كان يقال لها أم جميل بنت الأفقم، من نساء بني عامر بن صعصعة، ويقال‏:‏ من نساء بني هلال‏.‏

وكان زوجها من ثقيف قد توفي عنها، وكانت تغشى نساء الأمراء والأشراف، وكانت تدخل على بيت المغيرة بن شعبة، وهو أمير البصرة، وكانت دار المغيرة تجاه دار أبي بكرة، وكان بينهما طريق، وفي دار أبي بكرة كوة تشرف على كوة في دار المغيرة، وكان لا يزال بين المغيرة وبين أبي بكرة شنآن‏.‏

فبينما أبو بكرة في داره وعنده جماعة يتحدثون في العلية إذ فتحت الريح باب الكوة، فقام أبو بكرة ليغلقها، فإذا كوة المغيرة مفتوحة، وإذا هو على صدر امرأة وبين رجليها، وهو يجامعها‏.‏

فقال أبو بكرة لأصحابه‏:‏ تعالوا فانظروا إلى أميركم يزني بأم جميل، فقاموا فنظروا إليه وهو يجامع تلك المرأة‏.‏

فقالوا لأبي بكرة‏:‏ ومن أين قلت أنها أم جميل‏؟‏ - وكان رأساهما من الجانب الآخر -‏.‏

فقال‏:‏ انتظروا، فلما فرغا قامت المرأة، فقال أبو بكرة‏:‏ هذه أم جميل‏.‏ فعرفوها فيما يظنون‏.‏

فلما خرج المغيرة وقد اغتسل ليصلي بالناس منعه أبو بكرة أن يتقدم‏.‏

وكتبوا إلى عمر في ذلك، فولى أبا موسى الأشعري أميراً على البصرة‏.‏

وعزل المغيرة، فسار إلى البصرة فنزل البرد‏.‏

فقال المغيرة‏:‏ والله ما جاء أبو موسى تاجراً ولا زائراً ولا جاء إلا أميراً‏.‏

ثم قدم أبو موسى على الناس وناول المغيرة كتاباً من عمر، هو أوجز كتاب فيه‏:‏

أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميراً، فسلم ما في يديك والعجل‏.‏

وكتب إلى أهل البصرة‏:‏ إني قد وليت عليكم أبا موسى ليأخذ من قويكم لضعيفكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن دينكم، وليجبي لكم فيأكم، ثم ليقسمه بينكم‏.‏

وأهدى المغيرة لأبي موسى جارية من مولدات الطائف تسمى‏:‏ عقيلة، وقال‏:‏ إني رضيتها لك، وكانت فارهة‏.‏

وارتحل المغيرة والذين شهدوا عليه، وهم أبو بكرة، ونافع بن كلدة، وزياد بن أمية، وشبل بن معبد البجلي‏.‏

فلما قدموا على عمر جمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة‏:‏ سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني‏؟‏ مستقبلهم أو مستدبرهم‏؟‏ وكيف رأوا المرأة وعرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم يستتروا‏؟‏ أو مستدبري فكيف استحلوا النظر في منزلي على امرأتي‏؟‏ والله ما أتيت إلا امرأتي، وكانت تشبهها‏.‏

فبدأ عمر بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة‏.‏

قال‏:‏ كيف رأيتهما‏؟‏

قال‏:‏ مستدبرهما‏.‏

قال‏:‏ فكيف استبنت رأسها‏؟‏

قال‏:‏ تحاملت‏.‏

ثم دعا شبل بن معبد فشهد بمثل ذلك‏.‏

فقال‏:‏ استقبلتهما أم استدبرتهما‏؟‏

قال‏:‏ استقبلتهما‏.‏

وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم‏.‏

قال‏:‏ رأيته جالساً بين رجلي امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين يخفقان، وأستين مكشوفتين، وسمعت حفزاناً شديداً‏.‏

قال‏:‏ هل رأيت كالميل في المكحلة‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فهل تعرف المرأة‏؟‏

قال‏:‏ لا، ولكن أشبهها‏.‏

قال‏:‏ فتنح‏.‏

وروي‏:‏ أن عمر رضي الله عنه كبر عند ذلك، ثم أمر بثلاث فجلدوا الحد، وهو يقرأ قوله تعالى‏:‏ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 13‏]‏‏.‏

فقال المغيرة‏:‏ إشفني من الأعبد‏.‏

قال‏:‏ اسكت، اسكت الله فاك، والله لو تمت الشهادة لرجمناك بأحجارك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/95‏)‏

 فتح الأهواز ومناذر ونهر تيري

قال ابن جرير‏:‏ كان في هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ في سنة ست عشرة‏.‏

ثم روي من طريق سيف، عن شيوخه‏:‏ أن الهرمزان كان قد تغلب على هذه الأقاليم، وكان ممن فر يوم القادسية من الفرس، فجهز أبو موسى من البصرة، وعتبة بن غزوان من الكوفة جيشين لقتاله، فنصرهم الله عليه، وأخذوا منه ما بين دجلة إلى دجيل، وغنموا من جيشه ما أرادوا، وقتلوا من أرادوا، ثم صانعهم وطلب مصالحتهم عن بقية بلاده، فشاورا في ذلك عتبة بن غزوان، فصالحه، وبعث بالأخماس والبشارة إلى عمر، وبعث وفداً فيهم الأحنف بن قيس‏.‏

فأعجب عمر به، وحظي عنده‏.‏

وكتب إلى عتبة يوصيه به، ويأمره بمشاورته والاستعانة برأيه‏.‏

ثم نقض الهرمزان العهد والصلح، واستعان بطائفة من الأكراد، وغرته نفسه، وحسن له الشيطان عمله في ذلك‏.‏

فبرز إليه المسلمون فنصروا عليه، وقتلوا من جيشه جماً غفيراً، وخلقاً كثيراً، وجمعاً عظيماً، واستلبوا منه ما بيده من الأقاليم والبلدان إلى تستر، فتحصن بها، وبعثوا إلى عمر بذلك‏.‏

وقد قال الأسود بن سريع في ذلك، وكان صحابياً رضي الله عنه‏:‏

لعمرك ما أضاع بنو أبينا * ولكن حافظوا فيمن يطيعوا

أطاعوا لربهم وعصاه قوم * أضاعوا أمره فيمن يضيع

مجوس لا ينهنهها كتاب * فلاقوا كبة فيها قبوع

وولى الهرمزان على جواد * سريع الشد يثفنه الجميع

وخلى سرة الأهواز كرهاً * غداة الجسر إذ نجم الربيع

وقال حرقوص بن زهير السعدي، وكان صحابيا أيضاً‏:‏

غلبنا الهرمزان على بلاد * لها في كل ناحية ذخائر

سواء برهم والبحر فيها * إذا صارت نواحيها بواكر

لها بجر يعج بجانبيه * جعافر لا يزال لها زواخر

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/96‏)‏

 فتح تستُر المرة الأولى صلحاً

قال ابن جرير‏:‏ كان ذلك في هذه السنة في قول سيف وروايته‏.‏

وقال غيره‏:‏ في سنة ست عشرة‏.‏

وقال غيره‏:‏ كانت في سنة تسع عشرة‏.‏

ثم قال ابن جرير‏:‏ ذكر الخبر عن فتحها، ثم ساق من طريق سيف عن محمد، وطلحة، والمهلب، وعمرو قالوا‏:‏ ولما افتتح حرقوص بن زهير سوق الأهواز، وفر الهرمزان بين يديه، فبعث في إثره جزء بن معاوية - وذلك عن كتاب عمر بذلك - فما زال جزء يتبعه حتى انتهى إلى رامهرمز، فتحصن الهرمزان في بلادها، وأعجز جزءاً تطلبه، واستحوذ جزء على تلك البلاد والأقاليم والأراضي، فضرب الجزية على أهلها، وعمر عامرها وشق الأنهار إلى خرابها ومواتها، فصارت في غاية العمارة والجودة‏.‏

ولما رأى الهرمزان ضيق بلاده عليه لمجاورة المسلمين، طلب من جزء بن معاوية المصالحة، فكتب إلى حرقوص، فكتب حرقوص إلى عتبة بن غزوان، وكتب عتبة إلى عمر في ذلك، فجاء الكتاب العمري بالمصالحة على رامهرمز، وتستر، وجندسابور، ومدائن أخر من ذلك‏.‏

فوقع الصلح على ذلك، كما أمر به عمر رضي الله عنه‏.‏

 ذكر غزو بلاد فارس من ناحية البحرين عن ابن جرير عن سيف

وذلك أن العلاء بن الحضرمي كان على البحرين في أيام الصديق، فلما كان عمر عزله عنها، وولاها لقدامة بن مظعون‏.‏

ثم أعاد العلاء بن الحضرمي إليها، وكان العلاء الحضرمي يباري سعد بن أبي وقاص‏.‏

فلما افتتح سعد القادسية، وأزاح كسرى عن داره، وأخذ حدود ما يلي السواد واستعلى وجاء بأعظم مما جاء به العلاء بن الحضرمي من ناحية البحرين‏.‏

فأحب العلاء أن يفعل فعلاً في فارس نظير ما فعله سعد فيهم، فندب الناس إلى حربهم، فاستجاب له أهل بلاده، فجزأهم أجزاء، فعلى فرقة الجارود بن المعلي، وعلى الأخرى السوار بن همام، وعلى الأخرى خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد هو أمير الجماعة‏.‏

فحملهم في البحر إلى فارس، وذلك بغير إذن عمر له في ذلك - وكان عمر يكره ذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ما أغزيا فيه المسلمين - فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا من عند أصطخر، فحالت فارس بينهم وبين سفنهم، فقام في الناس خليد بن المنذر، فقال‏:‏

أيها الناس، إنما أراد هؤلاء القوم بصنيعهم هذا محاربتكم، وأنتم جئتم لمحاربتهم، فاستعينوا بالله وقاتلوهم، فإنما الأرض والسفن لمن غلب، واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين، فأجابوه إلى ذلك، فصلوا الظهر ثم ناهدوهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً في مكان من الأرض، يدعى‏:‏ طاوس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 97‏)‏

ثم أمر خليد المسلمين فترجلوا وقاتلوا، فصبروا ثم ظفروا، فقتلوا فارس مقتلة لم يقتلوا قبلها مثلها‏.‏

ثم خرجوا يريدون البصرة، فغرقت بهم سفنهم، ولم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلاً، ووجدوا شهرك في أهل أصطخر قد أخذوا على المسلمين بالطرق، فعسكروا وامتنعوا من العدو‏.‏

ولما بلغ عمر صنع العلاء بن الحضرمي اشتد غضبه عليه، وبعث إليه فعزله، وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه، وأبغض الوجوه إليه‏.‏

فقال‏:‏ الحق بسعد بن أبي وقاص

وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان‏:‏ أن العلاء بن الحضرمي خرج بجيش، فأقطعهم أهل فارس وعصاني، وأظنه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم أن لا ينصروا، أن يغلبوا وينشبوا، فأندب إليهم الناس، واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا‏.‏

فندب عتبة المسلمين، وأخبرهم بكتاب عمر إليه في ذلك، فانتدب جماعة من الأمراء الأبطال، منهم‏:‏ هاشم بن أبي وقاص، وعاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، والأحنف بن قيس، وغيرهم، في اثني عشر ألفاً‏.‏

وعلى الجميع أبو سبرة بن أبي رهم‏.‏

فخرجوا على البغال يجنبون الخيل سراعاً، فساروا على الساحل لا يلقون أحداً حتى انتهوا إلى موضع الوقعة التي كانت بين المسلمين من أصحاب العلاء، وبين أهل فارس بالمكان المسمى‏:‏ بطاوس، وإذا خليد بن المنذر ومن معه من المسلمين محصورون قد أحاط بهم العدو من كل جانب، وقد تداعت عليهم تلك الأمم من كل وجه، وقد تكاملت أمداد المشركين، ولم يبق إلا القتال‏.‏

فقدم المسلمون إليهم في أحوج ما هم فيه إليهم، فالتقوا مع المشركين رأساً، فكسر أبو سبرة المشركين كسرة عظيمة، وقتل منهم مقتلة عظيمة جداً، وأخذ منهم أموالاً جزيلةً باهرةً، واستنقذ خليداً ومن معه من المسلمين من أيديهم، وأعز به الإسلام وأهله، ودفع الشرك وذله، ولله الحمد والمنة‏.‏

ثم عادوا إلى عتبة بن غزوان إلى البصرة‏.‏

ولما استكمل عتبة فتح تلك الناحية، استأذن عمر في الحج فأذن له، فسار إلى الحج، واستخلف على البصرة أبا سبرة بن أبي رهم واجتمع بعمر في الموسم، وسأله أن يقيله فلم يفعل، وأقسم عليه عمر ليرجعن إلى عمله‏.‏

فدعا عتبة الله عز وجل فمات ببطن نخلة، وهو منصرف من الحج فتأثر عليه عمر، وأثنى عليه خيراً، وولى بعده بالبصرة المغيرة بن شعبة، فوليها بقية تلك السنة والتي تليها، لم يقع في زمانه حدث، وكان مرزوق السلامة في عمله‏.‏

ثم وقع الكلام في تلك المرأة من أبي بكرة، فكان أمره ما قدمنا‏.‏

ثم بعث إليها أبا موسى الأشعري والياً عليها رضي الله عنهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 98‏)‏

 ذكر فتح تستر ثانية وأسر الهرمزان وبعثه إلى عمر بن الخطاب

قال ابن جرير‏:‏ كان ذلك في هذه السنة في رواية سيف بن عمر التميمي‏.‏

وكان سبب ذلك‏:‏ أن يزدجرد كان يحرض أهل فارس في كل وقت، ويؤنبهم بملك العرب بلادهم وقصدهم إياهم في حصونهم، فكتب إلى أهل الأهواز وأهل فارس، فتحركوا وتعاهدوا وتعاقدوا على حرب المسلمين، وأن يقصدوا البصرة‏.‏

وبلغ الخبر إلى عمر، فكتب إلى سعد - وهو بالكوفة -‏:‏ أن ابعث جيشاً كثيفاً إلى الأهواز مع النعمان بن مقرن وعجل وليكونوا بإزاء الهرمزان، وسمى رجالاً من الشجعان الأعيان الأمراء يكونون في هذا الجيش، منهم

‏:‏ جرير بن عبد الله البجلي، وجرير بن عبد الله الحِمْيَري، والنعمان بن مقرن، وسويد بن مقرن، وعبد الله بن ذي السهمين‏.‏

وكتب عمر إلى أبي موسى وهو بالبصرة‏:‏ أن ابعث إلى الأهواز جنداً كثيفاً، وأمر عليهم سهيل بن عدي، وليكن معه البراء بن مالك، وعاصم بن عمرو، ومجزأة بن ثور، وكعب بن ثور، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، وعبد الرحمن بن سهل، والحصين بن معبد‏.‏

وليكن على أهل الكوفة، وأهل البصرة جميعاً أبو سبرة بن أبي رهم، وعلى كل من أتاه من المدد‏.‏

قالوا‏:‏ فسار النعمان بن مقرن بجيش الكوفة، فسبق البصريين فانتهى إلى رامهرمز، وبها الهرمزان، فخرج إليه الهرمزان في جنده ونقض العهد بينه وبين المسلمين، فبادره طمعاً أن يقتطعه قبل مجيء أصحابه من أهل البصرة رجاء أن ينصر أهل فارس‏.‏

فالتقى معه النعمان بن مقرن بأربل فاقتتلا قتالاً شديداً، فهزم الهرمزان وفر إلى تستر، وترك رامهرمز فتسلمها النعمان عنوةً وأخذ ما فيها من الحواصل، والذخائر، والسلاح، والعدد‏.‏

فلما وصل الخبر إلى أهل البصرة بما صنع الكوفيون بالهرمزان، وأنه فر فلجاً إلى تستر، ساروا إليها، ولحقهم أهل الكوفة حتى أحاطوا بها فحاصروها جميعاً، وعلى الجميع أبو سبرة، فوجدوا الهرمزان قد حشد بها خلقاً كثيراً وجماً غفيراً‏.‏

وكتبوا إلى عمر في ذلك، وسألوه أن يمدهم، فكتب إلى أبي موسى‏:‏ أن يسير إليهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 99‏)‏

فسار إليهم - وكان أمير أهل البصرة - واستمر أبو سبرة على الإمرة على جميع أهل الكوفة والبصرة، فحاصرهم أشهراً، وكثر القتل من الفريقين، وقتل البراء بن مالك أخو أنس بن مالك يومئذ مائة مبارز، سوى من قتل غير ذلك، وكذلك فعل كعب بن ثور، ومجزأة بن ثور، وأبو يمامة، وغيرهم من أهل البصرة‏.‏

وكذلك أهل الكوفة قتل منهم جماعة مائة مبارزة كحبيب بن قرة، وربعي بن عامر، وعامر بن عبد الأسود، وقد تزاحفوا أياماً متعددة، حتى إذا كان في آخر زحف، قال المسلمون للبراء بن مالك - وكان مجاب الدعوة -‏:‏ يا براء، أقسم على ربك ليهزمنهم لنا‏.‏

فقال‏:‏ اللهم اهزمهم لنا، واستشهدني‏.‏

قال‏:‏ فهزمهم المسلمون حتى أدخلوهم خنادقهم واقتحموها عليهم، ولجأ المشركون إلى البلد فتحصنوا به وقد ضاقت بهم البلد، وطلب رجل من أهل البلد الأمان من أبي موسى فأمنه، فبعث يدل المسلمين على مكان يدخلون منه إلى البلد، وهو من مدخل الماء إليها، فندب الأمراء الناس إلى ذلك، فانتدب رجال من الشجعان والأبطال‏.‏

وجاؤوا فدخلوا مع الماء - كالبط - إلى البلد، وذلك في الليل، فيقال‏:‏ كان أول من دخلها عبد الله بن مغفل المزني، وجاؤا إلى البوابين فأناموهم وفتحوا الأبواب، وكبر المسلمون فدخلوا البلد، وذلك في وقت الفجر إلى أن تعالى النهار‏.‏

ولم يصلوا الصبح يومئذ إلا بعد طلوع الشمس - كما حكاه البخاري عن أنس بن مالك قال‏:‏ شهدت فتح تستر، وذلك عند صلاة الفجر، فاشتغل الناس بالفتح فما صلوا الصبح إلا بعد طلوع الشمس، فما أحب أن لي بتلك الصلاة حمر النعم‏.‏

احتج بذلك البخاري لمكحول والأوزاعي في ذهابهما إلى جواز تأخير الصلاة لعذر القتال‏.‏

وجنح إليه، البخاري واستدل بقصة الخندق في قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً‏)‏‏)‏

وبقوله يوم بني قريظة‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة‏)‏‏)‏‏.‏

فأخرها فريق من الناس إلى بعد غروب الشمس، ولم يعنفهم، وقد تكلمنا على ذلك في غزوة الفتح‏.‏

والمقصود‏:‏ أن الهرمزان لما فتحت البلد لجأ إلى القلعة فتبعه جماعة من الأبطال ممن ذكرنا وغيرهم، فلما حصروه في مكان من القلعة ولم يبق إلا تلافه أو تلافهم، قال لهم بعد ما قتل البراء بن مالك، ومجزأة بن ثور رحمهما الله‏:‏ إن معي جعبة فيها مائة سهم، وإنه لا يتقدم إلى أحد منكم إلا رميته بسهم فقتلته، ولا يسقط لي سهم إلا في رجل منكم، فماذا ينفعكم إن أسرتموني بعد ما قتلت منكم مائة رجل ‏؟‏‏.‏

قالوا‏:‏ فماذا تريد ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ تؤمنوني، حتى أسلمكم يدي، فتذهبوا بي إلى عمر بن الخطاب، فيحكم فيَّ كما يشاء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 100‏)‏

فأجابوه إلى ذلك، فألقى قوسه ونشابه، وأسروه فشدوه وثاقاً، وأرصدوه ليبعثوه إلى أمير المؤمنين عمر، ثم تسلموا ما في البلد من الأموال والحواصل، فاقتسموا أربعة أخماسه، فنال كل فارس ثلاثة آلاف، وكل راجل ألف درهم‏.‏

 فتح السويس

ثم ركب أبو سبرة في طائفة من الجيش، ومعه أبو موسى الأشعري، والنعمان بن مقرن، واستصحبوا معهم الهرمزان، وساروا في طلب المنهزمين من الفرس حتى نزلوا على السوس، فأحاطوا بها‏.‏

وكتب أبو سبرة إلى عمر، فجاء الكتاب بأن يرجع أبو موسى إلى البصرة، وأمر عمر زر بن عبد الله بن كليب العقيمي - وهو صحابي - أن يسير إلى جندسابور‏.‏ فسار‏.‏

ثم بعث أبو سبرة بالخمس، وبالهرمزان مع وفد فيهم أنس بن مالك، والأحنف بن قيس، فلما اقتربوا من المدينة هيؤا الهرمزان بلبسه الذي كان يلبسه من الديباج والذهب المكلل بالياقوت واللآلئ‏.‏

ثم دخلوا المدينة وهو كذلك، فتيمموا به منزل أمير المؤمنين، فسألوا عنه فقالوا‏:‏ إنه ذهب إلى المسجد بسبب وفد من الكوفة، فجاؤا المسجد فلم يروا أحداً فرجعوا، فإذا غلمان يلعبون فسألوهم عنه، فقالوا‏:‏ إنه نائم في المسجد متوسداً برنساً له‏.‏

فرجعوا إلى المسجد، فإذا هو متوسد برنساً كان قد لبسه للوفد، فلما انصرفوا عنه توسد البرنس ونام وليس في المسجد غيره، والدرة معلقة في يده‏.‏

فقال الهرمزان‏:‏ أين عمر‏؟‏

فقالوا‏:‏ هو ذا‏.‏

وجعل الناس يخفضون أصواتهم لئلا ينبهوا‏.‏

وجعل الهرمزان يقول‏:‏ وأين حجابه‏؟‏ أين حرسه‏؟‏

فقالوا‏:‏ ليس له حجاب، ولا حرس، ولا كاتب، ولا ديوان‏.‏

فقال‏:‏ ينبغي أن يكون نبياً‏.‏

فقالوا‏:‏ بل يعمل عمل الأنبياء‏.‏

وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالساً، ثم نظر إلى الهرمزان فقال‏:‏ الهرمزان‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم، فتأمله وتأمل ما عليه، ثم قال‏:‏ أعوذ بالله من النار، وأستعين بالله‏.‏

ثم قال‏:‏ الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيكم، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غدارة‏.‏

فقال له الوفد‏:‏ هذا ملك الأهواز فكلمه‏.‏

فقال‏:‏ لا حتى لا يبقى عليه من حليته شيء‏.‏

ففعلوا ذلك، وألبسوه ثوباً صفيقاً، فقال عمر‏:‏ يا هرمزان، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله‏؟‏

فقال‏:‏ يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية، كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم، إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا‏.‏

فقال عمر‏:‏ إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا‏.‏

ثم قال‏:‏ ما عذرك، وما حجتك في إنقاضك مرة بعد مرة‏؟‏

فقال‏:‏ أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك‏.‏

قال‏:‏ لا تخف ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 101‏)‏

فاستسقى الهرمزان ماء فأتي به في قدح غليظ، فقال‏:‏ لو مت عطشاً لم أستطع أن أشرب في هذا، فأتي به قدح آخر يرضاه، فلما أخذه جعلت يده ترعد، وقال‏:‏ إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب ‏؟‏

فقال عمر‏:‏ لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه‏.‏

فقال عمر‏:‏ أعيدوه عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش‏.‏

فقال‏:‏ لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأنس به‏.‏

فقال له عمر‏:‏ إني قاتلك‏؟‏

فقال‏:‏ إنك أمنتني ‏؟‏

قال‏:‏ كذبت‏.‏

فقال أنس‏:‏ صدق يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال عمر‏:‏ ويحك يا أنس، أنا أؤمن من قبل مجزأة والبراء‏؟‏ لتأتيني بمخرج وإلا عاقبتك‏.‏

قال قلت‏:‏ لا بأس عليك، حتى تخبرني‏.‏

وقلت‏:‏ لأباس عليك حتى تشربه‏.‏

وقال له من حوله مثل ذلك‏.‏

فأقبل على الهرمزان فقال‏:‏ خدعتني، والله لا أنخدع إلا أن تسلم، فأسلم، ففرض له في ألفين، وأنزله المدينة‏.‏

وفي رواية‏:‏ إن الترجمان بين عمر وبين الهرمزان كان المغيرة بن شعبة، فقال له عمر‏:‏ قل له من أي أرض أنت‏؟‏

قال‏:‏ مهرجاني‏.‏

قال‏:‏ تكلم بحجتك‏.‏

فقال‏:‏ أكلام حي أم ميت‏؟‏

قال‏:‏ بل كلام حي‏.‏

فقال‏:‏ قد أمنتني‏.‏

فقال‏:‏ خدعتني ولا أقبل ذلك إلا أن تسلم، فأسلم، ففرض له في ألفين، وأنزله المدينة، ثم جاء زيد فترجم بينهما أيضاً‏.‏

قلت‏:‏ وقد حسن إسلام الهرمزان، وكان لا يفارق عمر حتى قتل عمر، فاتهمه بعض الناس بمملأة أبي لؤلؤة هو وجفينة، فقتل عبد الله بن عمر الهرمزان وجفينة على ما سيأتي تفصيله‏.‏

وقد روينا‏:‏ أن الهرمزان لما علاه عبيد الله بالسيف قال‏:‏ لا إله إلا الله، وأما جفينه‏:‏ فصلب على وجهه‏.‏

والمقصود‏:‏ أن عمر كان يحجر على المسلمين أن يتوسعوا في بلاد العجم خوفاً عليهم من العجم، حتى أشار عليه الأحنف بن قيس بأن المصلحة تقتضي توسعهم في الفتوحات، فإن الملك يزدجرد لا يزال يستحثهم على قتال المسلمين، وإن لم يستأصل شأو العجم، وإلا طمعوا في الإسلام وأهله، فاستحسن عمر ذلك منه وصوبه‏.‏

وأذن للمسلمين في التوسع في بلاد العجم، ففتحوا بسبب ذلك شيئاً كثيراً، ولله الحمد‏.‏

وأكثر ذلك وقع في سنة ثماني عشرة كما سيأتي بيانه فيها‏.‏

ثم نعود إلى فتح السوس، وجندسابور، وفتح نهاوند في قول سيف‏:‏ كان قد تقدم أن أبا سبرة سار بمن معه من علية الأمراء من تستر إلى السوس فنازلها حيناً، وقتل من الفريقين خلق كثير، فأشرف عليه علماء أهلها فقالوا‏:‏ يا معشر المسلمين، لا تتعبوا في حصار هذا البلد، فإنا نأثر فيما نرويه عن قدمائنا من أهل هذا البلد أنه لا يفتحه إلا الدجال، أو قوم معهم الدجال‏.‏

واتفق‏:‏ أنه كان في جيش أبي موسى الأشعري صاف بن صياد، فأرسله أبو موسى فيمن يحاصره، فجاء إلى الباب فدقه برجله فتقطعت السلاسل وتكسرت الأغلاق، ودخل المسلمون البلد فقتلوا من وجدوا حتى نادوا بالأمان، ودعوا إلى الصلح فأجابوهم إلى ذلك، وكان على السوس شهريار أخو الهرمزان، فاستحوذ المسلمون على السوس، وهو بلد قديم العمارة في الأرض يقال‏:‏ إنه أول بلد وضع على وجه الأرض‏.‏ والله أعلم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 102‏)‏

وذكر ابن جرير‏:‏ أنهم وجدوا قبر دانيال بالسوس، وأن أبا موسى لما قدم بها بعد مضي أبي سبرة إلى جندي سابور، كتب إلى عمر في أمره، فكتب إليه‏:‏ أن يدفنه وأن يغيب عن الناس موضع قبره ففعل‏.‏

وقد بسطنا ذلك في سيرة عمر ولله الحمد‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ أن فتح السوس، ورامهز، وتسيير الهرمزان من تستر إلى عمر في سنة عشرين والله أعلم‏.‏

وكان الكتاب العمري قد ورد‏:‏ بأن النعمان بن مقرن يذهب إلى أهل نهاوند، فسار إليها فمر بماه - بلدة كبيرة قبلها - فافتتحها، ثم ذهب إلى نهاوند ففتحها، ولله الحمد‏.‏

قلت‏:‏ المشهور أن فتح نهاوند إنما وقع في سنة إحدى وعشرين كما سيأتي فيها بيان ذلك، وهي وقعة عظيمة، وفتح كبير، وخبر غريب، ونبأ عجيب‏.‏

وفتح زر بن عبد الله الفقيمي مدينة جندي سابور، فاستوثقت تلك البلاد للمسلمين، هذا وقد تحول يزدجرد من بلد إلى بلد حتى انتهى أمره إلى الإقامة بأصبهان، وقد كان صرف طائفة من أشراف أصحابه قريباً من ثلاثمائة من العظماء عليهم رجل يقال له‏:‏ سياه، فكانوا يفرون من المسلمين من بلد إلى بلد حتى فتح المسلمون تستر واصطخر‏.‏

فقال سياه لأصحابه‏:‏ إن هؤلاء بعد الشقاء والذلة ملكوا أماكن الملوك الأقدمين، ولا يلقون جنداً إلا كسروه، والله ما هذا عن باطل‏.‏ - ودخل في قلبه الإسلام وعظمته - فقالوا له‏:‏ نحن تبع لك‏.‏

وبعث عمار بن ياسر في غضون ذلك يدعوهم إلى الله، فأرسلوا إلى أبي موسى الأشعري بإسلامهم‏.‏

وكتب فيهم إلى عمر في ذلك، فأمره أن يفرض لهم في ألفين ألفين، وفرض لستة منهم في ألفين وخمسمائة، وحسن إسلامهم، وكان لهم نكاية عظيمة في قتال قومهم حتى بلغ من أمرهم أنهم حاصروا حصناً فامتنع عليهم، فجاء أحدهم فرمى بنفسه في الليل على باب الحصن، وضمخ ثيابه بدم، فلما نظروا إليه حسبوا أنه منهم، ففتحوا إليه باب الحصن ليأووه، فثار إلى البواب فقتله، وجاء بقية أصحابه ففتحوا ذلك الحصن، وقتلوا من فيه من المجوس‏.‏

إلى غير ذلك من الأمور العجيبة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏.‏

وذكر ابن جرير‏:‏ أن عمر بن الخطاب عقد الألوية والرايات الكبيرة في بلاد خراسان والعراق لغزو فارس والتوسع في بلادهم، كما أشار عليه بذلك الأحنف بن قيس، فحصل بسبب ذلك فتوحات كثيرة في السنة المستقبلة بعدها كما سنبينه وننبه عليه، ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 103‏)‏

قال‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ثم ذكر نوابه على البلاد، وهم من ذكر في السنة قبلها غير المغيرة فإن على البصرة بدله أبو موسى الأشعري‏.‏

قلت‏:‏ وقد توفي في هذه السنة أقوام، قيل أنهم توفوا قبلها وقد ذكرناهم، وقيل فيما بعدها، وسيأتي ذكرهم في أماكنهم والله تعالى أعلم‏.‏